سامي عبد الحميـد ... قامة شامخة في باحة المسرح العراقـي

المقاله تحت باب  سينما و مسرح
في 
25/11/2008 06:00 AM
GMT




 لعل من أهم ما يشغل مواطن البحث ودائرة التقصي في  ذاكرة الناقد المختص وهو يحاول الولوج صوب مجاهل ذلك الكنف البلوري الممتلأ بالمعالم السحرية الخلاقة المعلنـة بصورة ( مُنتج إبداعي ) بكل تصانيفة الفنية المرئية , او المقروءة حينا ً , او المخبأة في آحايين اخرى بهيئات وصور مخملية بين الثنايا السرمدية التي يحاذيها الإفصاح , وهو يرنو محفزا ادواته المعرفية لتدوين تلك المعالم بقطبيها المعلن والخفي , وهو يتناول السِفـْر الفنـي الجليل للمبدع الكبير ( سامي عبد الحميد ) بكونه واحد من اهم المبدعين المسرحيين الكبار , والذي  يـُعدُ أحـد أهم أعمدة المسرح العراقي والعربي , ومن جيل النخبة النجيبة التي أسست لتدعيم ركائز تسيّـد النتاج المسرحي العراقي على الساحة العرضية والتنظيرية العربية على مدى اكثر من نصف قرن . 

وعليه ابتدءا وهو مزمع في سبر اغوار رحلة ذلك المبدع , ان يكون متمكنا من استحضار ادوات استقراءاته المدعومة بقرائن دلائلية وبناء تحليلي مشفوع بملكة التواصل الزمكاني الفطن ، لعموم مراحل التطور الابداعي لذات المبدع الذي حقق حضورا مبهرا ، ومتميزا في فنون المسرح العراقي بمجمل ميادينه الفنية المختلفة .

قد تكون الطريقة الى المدخل الاستهلالي او ربما طريقة العرض البيلوغرافي المؤرخ بالتواصل المعرفي الاصيل لذلك النسيج الفنـي والوعيوي النخبوي في سِفـْر ِ( سامي عبد الحميد ) المسرحي , ربما تبدو شائكة وصعبة , اولا لسرعة حركة ايقاعه الفني المعملي , وثانيا لتتابع المراحل وتداخلها في تجربته المسرحية الغنية , باعتباره احد كبار المنظريين واحد افراد الجبلة المسرحية الاولى في المسرح العراقي ، واحد أساتذة التعليم الأكاديمي فيه .

لكنني سأنحى منحى ً معرفيا ً فنيا َ آخر لتحقيق معادلة معلوماتية ابتدائية لكي أصيغ من خلالها مشهدا استهلاليا ناهضا للولوج صوب ذلك الفضاء الفني الفسيح , لهذا المبدع الكبير . 

من الملاحظ ان في نظرية الفن عند ( ارسطو ) انه لم يدون في مجمل تصانيفه المكتوبة الخصبة شيئا عن نظرته لعلم الجمال , وانما اقتصر على اعطاء فكـرة عن الفن بصـورة ( محاكاة ) واستثمر ذلك الجهد الفني في استخدام المساهم الكبير ( العقل ) في ترويض مجمل المكنونات الفنية , ويبدو ان النظرية الجمالية لم يكن قيامها بشكل نظرية عند الاغريق , رغم انه ليس من الممكن نكران انهم قد عنوا بالجمال وربما كان عنصرا مهما ومكملا وناهضا للثنائـــي المقدس ( الخير – الحق ) .

وفي محاورات ( افلاطون ) يمكننا الامساك بمحاولات جادة وعميقة في فهم ودراسة طبيعة الجمال , ولكنها لم ترتقي الى مصاف ( النظرية الجمالية ) المتكاملة , وبهذا يمكن القول بأن الاغريق قـد عرفـوا مفـــردة ( جميل ) ( beautiful ) لكنهـم لم يعرفـوا مفـردة ( استطيقي ) (aesthetic  ) التي ظهرت لأول مرة في بدايات القرن الثامن عشر وتحديدا عـام ( 1735 م ) عنـدما دونها ( باومجارتـن ) في البحث الذي نشره بعد  حصوله على شهادة الدكتوراه , ليجعلها علما خاصا بدراسة ( المدركات الحسيـــــة ) او علـم ( المعرفة الحسية ) وهي يالتالي نظرية للفنون الجميلة , وعلم المعرفة البسيطة وفن التفكير على نحو جميل , وفن التفكير الاستدلالي , او كما عرفـه فيما بعد ( كروتشه ) بانه الحدس المباشر او الوجدان , او كما عرفه ( كريت جون ديكاس ) بانه كل ما له صلة بالمشاعر الحاصلة خلال التأمل , اما (سوريو)  فيعرفه بقوله , انه العلم الذي يضع تحت اجناس كلية المعارف الخاصة المتضمنة في النشاط الفنـي , اما ( يوت باركـر ) فيقـــول ان الغرض من ( الاستطيقا ) او ( فلسفلة الفن ) هو كشف الخصائص النوعية للفن الجميل  وتحديد العلاقة بين الفن والمظاهر الحضارية الاخرى .

ومما تقدم أكون قد وجدت لنفسي مناخا عمليا وعلميا للكشف عن براهين ومنطوق لتلك المعادلة القائمة بين ( المدركات العقلية ) و ( المدركات الحسية ) باعتبارهما دلالتين قائمتين مشاركتين وفاعلتين في أنتعاش مناخات المُنتج الابداعي المسرحي , ولعل هذه المحاولة الاستهلالية او المدخل التنظيري  يولجني صوب منصة الباحة الرحبة لتجارب المبدع ( سامي عبد الحميد ) لدراستها ، ومن ثم لمحاولة تناول تجربته الفنية المسرحية على مدى عقود فنية خصبة خلت , باعتباره من المعنيين والمهتميين الاكاديميين في التعامل المختبري مع قطبيّ تلك المعادلـة الناجعـة ( المدركات العقلية ) و ( المدركات الحسية ) والجمع بين النظريات المسرحية الكلاسيكية والنظريات الجمالية باشكالها وكينوناتها الحديثة المختلفة ابتدءا من تعاليـم ( ارسطو ) والعـروض المسرحيـة ( الكلاسيكيـة القديمـة ) و ( مسرح العصور الوسطـى ) ومـرورا بـ( العصـر الاليزابيثـي ) و ( الكوميديـا دي لارتي ) و ( المذهب الرومانسي ) الحديث و (الطبيعيـة ) و ( الواقعيـة ) و ( المذهب الرمـزي ) و ( المذهب التعبيري ) و ( مسرح العبث ) و ( المونو دراما ) و (المسرح الفقير ) و( مسرح فيزيائية الجسد ) وانتهاءا بـ ( السيمائية ) باعتبارها جل الاستثمارات الدلالية الموزعة على مختلف العناصر المكونة للتعبير اللساني في اللغة الطبيعية , او على وفق تعريف ( كريستيفا ) بانها منهجا للعلوم الانسانية وتطبيقات ( سوسيو- تاريخية ) ومجموعة انظمة دالة .

وربما يبقى ثمة سؤال يجول في الذاكرة الحية التي راقبت بفطنة تلك الرحلة الفنية الطويلـة هل استطـاع ( سامي عبد الحميد ) ان يهضم كل تلك التعاليم الاستقرائية والتنظيرية والفلسفية عبر تلك الرحلة الشاقة ابتدءا من بواكير اعماله المسرحية  آبان اوائل الأربعينيات من القرن المنصرم , حيث قام بتجسيد دور البطولــة في مسرحيــة ( انا الجندي ) في مدرسة التفيض الاهلية في مدينة ( سامراء ) التاريخية وهو ما يزال لا تربطة اية وشائج عملية وطيدة بفن المسرح , او حينما جسد دور ( والد كليانت ) في مسرحيـة ( البخيـــل ) لـ( موليير ) في مدينة ( الديوانية ) في حنوب العراق التي انتقل اليها ليكمل دراسته الاعدادية فيها , وحين انتقل الى بغداد لاكمال دراسته في كلية الحقوق  أخذ يتردد على دور السينما وراح يشخص ادوار الممثلين أمام المرآة لتترسخ في ذهنه ملكة تلك الصنعة الاخاذة ( التمثيل ) ومن ثم اتيحت له فرصة مشاهدة الممثل الكوميدي ( جعغر لقلق زاده ) بعدهـا التقى بزميل رحلتـه الفنـــان ( يوسف العاني ) الذي شكل حينذاك فرقة مسرحية اسماهـا ( مجموعة جبر الخواطر ) وعبرهـا اختـاره الراحـل المبـدع ( ابراهيم جلال ) ليجسـد دور ( انطونيو ) في مسرحية ( تاجر البندقية ) لـ( شكسبير ) ثم اختاره ذات المخرج فيما بعد لتجسيد دور ( فاسيلي ) في مسرحية ( اغنيــة التــم ) لـ( تيشكوف ) لفرقة المسرح الحديث وفـي عـام (1956) وبعد تسنمه ادارة قسم المسرح في مصلحة السينما والمسرح التي كان يرأسها المبـدع الراحـل ( حقي الشبلي ) أشرف على الكثير من نتاجاتها الفنية ، وبعد هذه المرحلة المبكرة من رحلتة الطويلة ازداد تعلقه بذلك النشأ السحـري ( المسرح ) فجسد العديد من الادوار المهمة على صعيد المسرح والتلفزيون والسينما واخرج العديد من الاعمال المسرحية الخالدة في فرقة المسرح الحديث والفرقة القومية للتمثيل وتعامل مع كبار المخرجين المبدعين امثال ( ابراهيم جلال ) و ( قاسم محمد ) وغيرهم , ولا يفوتنى ذكر  تجاربه الرائدة مع الفنان التشيكلي الخلاق ( كاظم حيدر ) وتعاونه المثمر مع الكاتب المبدع ( عادل كاظم ) وتعاونه الجاد مع نخبة من الشباب المسرحي الذي استطاع ان يثبت جدارتة وينمي ايقاع ذاته المبدعة الخلاقة في الحركة المسرحية العراقية والعربية امثال المبدعين ( كاظم النصار ) و ( حيدر منعثر )  وغيرهم من الشباب المبدع .

ويبدو ان لا مجال هنا لحصر جميع الاعمال المسرحية لهذا المبدع ( ممثـلا ً) و( مخرجا ) و( منظرا ) ولكني ساذكر في هذا السياق وعلى مستوى التمثيل واستحضر من الذاكرة لعلها تسعفني وقد جاوزت الخمسين بنيف من طلع نخلي المتطاير , بانني قد اتيحت لي فرصة مثالية قبل سفري الى المغرب اوائل السبعينات من القرن الفائت ان احضـر عـرض مسرحيــة ( المتنبي ) لراحلنا الفـذ ( ابراهيم جلال )  وعبرنا حينها حدود القصر الجمهوري الذي كان محاط بمجموعات من رجال الحرس الجمهوري وهم مدججين باسلحتهم وسرنا بمحاذاة الحدود المحيطة بمنطقة كرادة مريم , وحينما خرجنا من العرض وانا اشعر بفخر سرمدي , ممتلأ ً بالدهشة والصدمة والفضول ، ومغلفا برغبة عارمة ولذة خلابة في ان اجتهد كي اكون ممثلا مجيدا كالذي رأيت , ومتمنيا بذات الوقت بان تـُعاد الكرة ثانية كي يتسنى لي رؤية ذلك ( السامي المتنبي ) منتصبا شامخا وهو يردد ابيات المتنبي بصوته الجرسي الخلاب الممتع .

   ( تمرست بالآفات حتى تركتها تقول   *     أمات الموت أم ذعر الذعر )

نقلني هذا الصوت عبر حواسي وملكاتي الروحية والعقلية والدلائلية الى عبق الكوفة الجليل 0 بل واطاح بنواصي قصائدي في حضرة تلك الباحة المسرحية الاخاذة , وهذا ما يمتاز به هذا ( الممثل ) الخارق باعتراف الخشبة اولا , وجملة النقاد بالاجمال ثانيا  ، والجمهور المتلقي ثالثا .

بعد هذه التجربة نقلني الى عالم ( الاكريولوجيا ) السحري عبر الرقـُم الطينيـة حينمـا اخـرج مسرحيـة ( كلكامش ) وبالرغم من انه كان مسجلا وثائقيا ومؤرخا للملحمة اكثر منه منتجا للاشكال الصورية المبهرة ، وقد يحسب لهذه التجربة احياءها لملامح مسرحة التاريخ العراقي القديم , وهو في ظني اول من تعرض لهكذا تناول ممسرح باستخدام الاسطورة وإخضاعها  لمقومات العرض المسرحي , رغم ان الملحمة المنقولة الينا عبر الراحل ( طه باقر ) لا تحمل مقومات النص الادبي ، او الخطاب المسرحي .

ولو رجعنا للسؤال آنف الذكر , لقلنا وبكثير من الفخر بان ( سامي عبد الحميد ) كان وما يزال منظرا كبيرا وممثلا مجيدا , ومخرجا يسجل تاريخه الطويل اعمالا مسرحية مهمة يوثقها سجل المسرح العراقي والعربي ، ولقد تحصن بملكات ابداعية متميزه عبر دراسته الاكاديمية لفن المسرح في لندن , وافـاد بها الكثيـر من الأجيال اللاحقة التي اكتسبت من خبرته الوافرة عمق الدراية وراحت تسبر اغوار التجارب وتحليل النظريات القديمة والحديثة لتقدم لنا من خلال نخلته الفكرية الباسقة الوارثة الظلال اطاريح اكاديمية ناضجة في مختلف فنون المسرح في الدراسات العليا تحت اشرافه وتخرج من تحت جلبابه العديد من الاجيال المبدعة من المسرحيين الذين يدينون له بالعرفان والفضل اولا ً والمعرفة والعلم ثانيا ً ,

لقد كانت الخصوصية الاسلوبية والطرائقية المتفـردة في فـن الاخراج والتمثيـل المسرحـي عند الفنـان ( سامي عبد الحميد ) قد شكلت محورأ مهمأ ومناخا خصبا لدى العديد من المهتمين بشؤون المسرح العراقى والعربي وقد اثبتت  هذه ( التجارب ) عافية المسرح العراقي المرئيـة التي أسهمت بالتالـي فى تطويــر واثراء الملكات الفنية والفكرية لدى العديد من طلبة الدراسات العليا في كلية الفنون الجملية , كما نمت هذه التجارب قدرات وملكات العاملين في المجالات التقنية الفنية , واسهمت في اخصاب ونمو الأداء التمثيلى لدى المعنيين بهذه التجارب ذات الصبغة المهارية العالية في فن التمثيل , فضلا عن انها قد فعلّت حركة النقد المسرحى العراقي والعربي وأثرته , بالاضافة الى ان هذه التجارب كانت قد أطرت لموضوعية انتخاب النص المسرحى العالمي والمحلي الذى من خلاله استطاع ذات الفنان ان يفجر ملكاته الابداعية الفكرية والحسية والجمالية والدلائلية , ليحصل في الكثير من تجاربة العرضية , على ادق حالات الاستجابة المثلى من قبل المتلقيين على مستوى النخبة وجمهور الحضور بالعموم , وعلى مستوى النقاد المسرحييـن , وأثرت بالايجاب أيما تاثير في المناخات المسرحية العراقية والعربية بالاعم الاغلب .

واخيرا يبقى الفنان الكبير ( سامي عبد الحميد ) قامة شامخة من قامات المسرح العراقي والعربي ، ومفخرة عراقية صرفة ، ومفكرا مبدعا وصاحب رؤية وملكـة فنية ( عقلية - حسية – جمالية - دلائلية ) خصبة خلاقة امتزجت في بودقتها جل النظريات والتجارب القديمة والحديثة , وحسبنا القول بانه قلب رهيف ٌ حيّ مثابر ، ينبض بالحب والوفاء لباحة المسرح العراقي